كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن ذلك قراءة أبي جعفر يزيد: {مِنِ اجْلِ ذَلِكَ} غير مهموز والنون مكسورة.
قال أبو الفتح: يقال: فعلت ذلك من أَجلك ومن إِجْلِك بالفتح والكسر، ومن إجلاك ومن جلَلِك ومن جلالِك ومن جَرَّاك، فيجب على هذا أن تكون قراءة أبي جعفر: {مِنِ اجْلِ ذَلِكَ} على تخفيف همزة {إِجْل} بحذفها وإلقاء حركتها على نون مِن، كقولك في تخفيف: كم إبلُك: كم بِلُك، وفي من إبراهيم: منِ بْراهيم، وهو واضح.
ومن ذلك قراءة الحسن: {مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادًا فِي الْأَرْضِ} بنصب الفساد.
قال أبو الفتح: ينبغي أن يكون ذلك على فعل محذوف يدل عليه أول الكلام؛ وذلك أن قتل النفس بغير النفس من أعظم الفساد، فكأنه قال: قال أو أتى فسادًا، أو ركب فسادًا، أو أحدث فسادًا. وحذفُ الفعل الناصب لدلالة الكلام عليه وإبقاء علمه ناطقًا به ودليلًا عليه مع ما يدل من غيره عليه- أكثرُ من أن يؤتى بشيء منه مع وضوح الحال به، إلا أن منه قول القطامي:
فكرت تبتغيه فوافقته ** على دمه ومَصرَعِه السباعا

فنصب السباع لأنها داخلة في الموافقة، ألا تراها إذا وافقت السباع على دمه فقد دخلت السباع في الموافقة، فيصير كأنه قال: وافقت السباع؟ وهو عندنا بعد على حذف المضاف؛ أي: آثار السباع؛ لأنها لو صادفت السباع هناك لأكلتها أيضًا، وهناك مضاف آخر محذوف؛ أي: صادفت السباع على أشلائه وبقاياه، لأنها إذا وافقت آثار السباع على دمه ومصرعه؛ فإنما وافقت بقاياه لا جميعه.
وسمعت سنة خمس وخمسين غلامًا حدثًا من عُقيل ومعه سيف في يده، فقال له بعض الحاضرين وكنا مُصْحِرين: يا أعرابي، سيفك هذا يقطع البطيخ؟ فقال: إي والله وغواربَ الرجل، فنصب الغوارب على ذلك؛ أي: ويقطع غواربَ الرجال.
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم والسلمي: {أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} بالياء ورفع الميم.
قال ابن مجاهد: وهو خطأ.
قال: وقال الأعرج: لا أعرف في العربية {أفحكمُ}، وقرأ: {أفحكمَ} نصبًا.
وقرأ الأعمش: {أفَحكَمَ الجاهلية} بفتح الحاء والكاف والميم.
قال أبو الفتح: قول ابن مجاهد إنه خطأ فيه سرف؛ لكنه وجه غيره أقوى منه، وهو جائز في الشعر، قال أبو النجم:
قد أصبحَتْ أَمُّ الخيار تدَّعي ** عليَّ ذنبًا كلُّه لم أصنع

أي: لم أصنعه، فحذف الهاء. نعم، ولو نصب فقال: كلَّه لم ينكسر الوزن، فهذا يؤنسك بأنه ليس للضرروة مطلقة؛ بل لأن له وجهًا من القياس، وهو تشبيه عائد الخبر بعائد الحال أو الصفة، وهو إلى الحال أقرب؛ لأنها ضرب من الخبر، فالصفة كقولهم: الناس رجلان: رجل أكرمت ورجل أهنت؛ أي: أكرمته وأهنته، والحال كقولهم: مررت بهند يضرب زيد؛ أي: يضربها زيد، فحذف عائد الحال وهو في الصفة أمثل؛ لشبه الصفة بالصلة في نحو قولهم: أكرمت الذي أهنت؛ أي: أهنته، ومررت بالتي لقيتُ؛ أي: لقيتها، فغير بعيد أن يكون قوله: {أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} يراد به يبغونه، ثم يُحْذَف الضمير، وهذا وإن كانت فيه صنعة فإن ليس بخطأ.
وفيه من بَعْدِ هذا شيئان نذكرهما:
الأول: وهو أن قوله: كله لم أصنع وإن كان قد حذف منه الضمير، فإنه قد خلفه وأُعيض منه ما يقوم مقامه في اللفظ؛ لأنه يعاقبه ولا يجتمع معه، وهو حرف الإطلاق؛ أعني: الياء في أصنعي، فلما حضر ما يعاقب الهاء فلا يجتمع معها صارت لذلك كأنها حاضرة غير محذوفة، فهذا وجه.
والثاني: أن هناك همزة استفهام، فهو أشد لتسليط الفعل، ألا ترى أنك تقول: زيد ضربته فيختار الرفع، فإذا جاء همزة الاستفهام اخترت النصب ألبتة، فقلت: أزيدًا ضربته، فنصبته بفعل مضمر يكون هذا الظاهر تفسيرًا له.
فإذا قلت: {أفحكمَ الجاهلية تبغون} ولم تُعد ضميرًا ولا عوضت منه ما يعاقبه، وحرف الاستفهام الذي يختار معه النصب والضمير ملفوظ به موجود معك، فتكاد الحال تختلف على فساد الرفع، وبإزاء هذا أنه لو نصب فقال: كلَّه لم أصنع لما كَسَر وزنًا، فهذا يؤنسك بالرفع في القراءة.
وإن شئت لم تجعل قوله: {يبغون} خبرًا؛ بل تجعله صفة خبر موصوف محذوف، فكأنه قال: أفحكمُ الجاهلية حكمٌ يبغونه، ثم حذف الموصوف الذي هو حكم، وأقام الجملة التي هي صفته مقامه؛ أعني: يبغون، كما قال الله سبحانه: {مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ} أي: قوم يحرفون، فحُذف الموصوف وأُقيمت الصفة مقامه، وعليه قوله:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح

أي: فمنهما تارة أموت فيها، فحذف تارة وأقام الجملة التي هي صفتها نائبة عنها فصار أموت فيها، ثم حذف حرف الجر فصار التقدير أموتها، ثم حذف الضمير فصار أموت. ومثله في الحذف من هذا الضرب؛ بل هو أطول منه:
تروَّحي يا خيرَةَ الفَسيلِ ** تروَّحي أجدرَ أن تقيلي

أصله: ائتي مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه، فحذف الفعل الذي هو ائتي لدلالة تروحي عليه، فصار مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الموصوف الذي هو مكانًا فصار تقديره أجدر بأن تقيلي فيه، ثم حذف الباء أيضًا تخفيفًا فصار أجدر أن تقيلي فيه، ثم حذف حرف الجر فصار أجدر أن تقيليه، ثم حذف العائد المنصوب فصار أجدر أن تقيلي. ففيه إذن خمسة أعمال؛ وهي: حذف الفعل الناصب، ثم حذف الموصوف، ثم حذف الباء، ثم حذف في، ثم حذف الهاء، فتلك خمسة أعمال.
وهناك وجه سادس؛ وهو أن أصله: ائتي مكانًا أجدر بأن تقيلي فيه من غيره، كما تقول: مررت برجل أحسن من فلان، وأنت أكرمُ عليَّ من غيرك. فإذا جاز في الكلام توالي هذه الحذوف ولم يكن معيبًا ولا مَشِينًا ولا مُستكرَهًا كان حذف الهاء من قوله تعالى: {أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}، والمراد به حكمٌ يبغونه، ثم حذف الموصوف وعائده أسوغ وأسهل وأسير. وأما قوله: {أَفَحَكَمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} فيمن قرأه كذلك، فأمره ظاهر في إعرابه، غير أن {حَكَمًا} هنا ليس مقصودًا به قصد حاكم بعينه؛ وإنما هو بمعنى الشِّياع والجنس؛ أي: أفحكامَ الجاهلية يبغون؟ وجاز للمضاف أن يقع جنسًا كما جاء عنهم في الحديث من قولهم: منعت العراق قَفِيزها ودرهمها، ومنعت مصر إردبها، وله نظائر.
ثم يرجع المعنى من بعد إلى أن معناه معنى: {أَفَحُكْمُ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ}؛ لأنه ليس المراد والْمَبْغيّ هنا نفس الحكام، فإنما المبغي نفس الحُكْم، فهو إذن على حذف المضاف؛ أي: أفحُكمَ حَكَمِ الجاهلية يبغون؟ وهذا هو الأول في المعنى، فاعرف ذلك.
ومن ذلك قراءة يحيى وإبراهيم: {فَيرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} بالياء.
قال أبو الفتح: فاعل يرى مضمر دلت عليه الحال؛ أي: فيرى رائيهم ومتأمِّلُهم، والذين في موضع نصب كقراءة الجماعة، وقد كثر إضمار الفاعل لدلالة الكلام عليه، كقولهم: إذا كان غدًا فائتني؛ أي: إذا كان ما نحن عليه من البلاء في غد فائتني، وهو كثير، ودل عليه أيضًا القراءة العامة؛ أي: فترى أنت يا محمد- أو يا حاضر- الحال الذين في قلوبهم مرض يسارعون في ولاء المشركين ونصرهم.
ومن ذلك قراءة الحسن وابن هُرْمُز وابن عمران ونُبيج وابن بريدة: {مَثْوبة} ساكنة الثاء.
قال أبو الفتح: هذا مما خرج على أصله، شاذًّا عن بابه وحال نظائره، ومثله مما يحكى عنهم من قولهم: الفُكاهة مَقْوَدةٌ إلى الأذى، وقياسهما مَثابة ومَقادة، كما جاء عنهم من منامة وهي القطيفة، ومزادة، ومثله مزْيد، وقياسه مزاد، إلا أن مَزْيَدًا عَلَم، والأعلام قد يحتمل فيها ما يكره في الأجناس، نحو: مَحبب ومَكوزة ومريم ومدين ومعد يكرب ورجاء بن حيوة، ومنه: موظب ومورق اسم رجلين، ومَثْوَبة مَفْعَلةٌ ومَثُوبة مَفْعُلة، ونظيرها الْمَبْطَخة والْمَبْطُخة والمشرَفة والمشرُفة، وأصل مَثُوبَة مَثْوُبَة، فنقلت الضمة من الواو إلى الثاء، ومثلها معونة. وأما مئونة فمختلف فيها، فمذهب سيبويه أنها فَعُولة من مُنت الرجل أَمونه، وأصلها مَوُونة بلا همز، كما تقول في فَعول من القيام: قَوُوم، ومن النوم: نَوُوم، ثم تُهمز الواو استحسانًا للزوم الضمة لها؛ فتصير مئونة. وقال غيره: هي مَفْعُلة من الأَوْن؛ وهو الثِّقْل من قول رؤبة:
سِرًّا وقد أوَّن تأْوينَ العُقُق

أي: ثقلت أجوافهن فصار كأن هناك أَونَين؛ أي: عِدْلين، فمئونة على هذا كمعونة، هذا من الأَوْن، وهذا من الْمَوْن، وأجاز الفراء أن تكون من الأَيْن- وهو التعب- من حيث كانت المئونة ثِقْلًا على ملتزها، فسلك الفراء في هذا مذهب أبي الحسن في قوله في مَفْعُلَة من البيع: مَبْوُعَة، وحجته في هذا ما سمع منهم في قول الشاعر:
وكنتُ إذا جارِي دَعَا لمضوفة ** أُشَمِّر حتى يَنْصُفَ الساقَ مئزري

وهي من الضيف. والكلام هنا يطول، وقد أشبعناه في كتابنا المنصف.
ومن ذلك ما يُروى في قول الله تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} 4، وهو عشر قراءات:
{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} على فَعَل ونصب الطاغوت. {وعَبُدَ الطاغوتِ} بفتح العين، وضم الباء، وفتح الدال، وخفض الطاغوت، وهما في السبعة.
ابن عباس، وابن مسعود، وإبراهيم النخعي، والأعمش، وأبان بن تغلب، وعلي بن صالح، وشيبان: {وعُبُد الطاغوتِ} بضم العين والباء، وفتح الدال، وخفض الطاغوت.
وروى عكرمة عن ابن عباس: {وعُبَّدَ الطاغوتِ} بضم العين، وفتح الباء وتشديدها، وفتح الدال، وخفض الطاغوت.
وأبو واقد: {وعُبَّادَ الطاغوتِ}، و{وعِبَادَ الطاغوتِ} قراءة البصريين.
وقال معاذ: قرأ بعضهم: {وعُبِدُ الطاغوتُ}، كقولك: ضُرب زيد لم يسم فاعله.
وقرأ عون العقيلي وابن بُرَيدة: {وعابِدَ الطاغوتِ}.
وقرأ أبي بن كعب: {وعَبدُوا الطاغوتَ} بواو.
وقرأ ابن مسعود فيما رواه عبد الغفار عن علقمة عنه: {وعُبَدَ الطاغوتِ} كصُرد.
قال أبو الفتح: أما قوله: {وعَبد الطاغوتَ} فماض معطوف على قوله سبحانه: {وَجَعَلَ مِنْهُمْ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}.
وأما {وعَبُد الطاغوتِ} فاسم على فَعُل. قال أبو الحسن: جاء به نحو حَذُر وفَطُن.
قال: وأما {وعُبُدَ} فجمع عبيد، وأنشد:
انسب العبدَ إلى آبائه ** أسود الجلد ومن قوم عُبُد

هكذا قال أبو الحسن، وقد يجوز أن يكون عُبُد جمع عَبْد، كرَهْن ورُهُن، وسَقْف وسُقُف، ومن جهة أحمد بن يحيى: عُبُد جمع عابد، وهذا صحيح، كبازل وبُزُل، وشارف وشُرُف.
وقال أبو الحسن: والمعنى- فيما يقال- خَدمُ الطاغوت.
وأما {عُبَّد الطاغوت} فجمع عابد، ومثله عُبَّاد، كضارب وضُرَّب وضُرَّاب، وعليه القراءتان: {عُبَّد الطاغوت} و{عُبَّاد الطاغوت}، وعليه قراءة من قرأ: {وعِبَادَ الطاغوت}، عابد وعباد، كقائم وقيام، وصائم وصيام. وقد يجوز أن يكون {عِبَادَ الطاغوت} جمع عَبْد، وقلما يأتي عِباد مضافًا إلى غير الله. وقد أنشد سيبويه:
أتوعدني بقومك يابن حَجْل ** أُشَاباتٍ يُخالون العِبادَا

يريد: عبيدًا لبني آدم، ولا يجوز أن يكون في المعنى عباد الله، لأن هذا ما لا يُسب به أحد، والناس كلهم عباد الله تعالى1 وأما قول الآخر:
لا والذي أنا عبد في عبادته ** لولا شماتة أعداء ذوي إحن

ما سرني أنَّ إبْلي في مبارِكها ** وأن شيئًا قضاه الله لم يكن

فيحتمل أن يكون جمع عبد، إلا أنه أنثه فصار كَذِكارة وحجارة وقصارة، جمع قصير.